الشیخ غریب رضا
الموقع الشخصی
الشیخ غریب رضا
الموقع الشخصی

المشاركات الاخيرة

ذكريات عائدٍ من تونس (1)

11/11/2023 الذكريات
ذكريات عائدٍ من تونس (1)

كنت من المشاركين في المنتدى الاجتماعي العالمي في عام 2013م وكانت لي سابقة الخوض في هذه التجربة الديناميكية وهذا الحدث السياسي والفكري الكبير الذي يجمع في صرحه نشطاء من كل أقصاء العالم.

في المنتدى الاجتماعي كنا نلتقى بالمسلم والمسيحي والعربي والغربي والليبرالي واليساري و…، فكان التنوع كبير جداً وهذه الخصوصية كانت تفتح أمامنا فرصة كبيرة للتفاعل والحوار المفتوح وتبادل وجهات النظر المخالفة.

التوجه اليساري كان يسود الجو العام للمنتدى، الذين كانوا يتواجدون بكثرةٍ هم أصحاب الفكر الماركسي والعلماني، وليس بالضرورة أن يكونوا ملحدين فمع ذلك كانت لنا الحرية التامة في عرض وجهات نظرنا وأفكارنا الثورية وإعلاء صوت المستضعفين بخطابنا الإسلامي الحضاري. وحسب الإحصائيات قد شارك في المنتدى أكثر من 40 إلى 60 ألف شخصاً وهم يشاركون في الندوات الحوارية التي تقام في القاعات المخصصة للدراسة والمحاضرات في المركب الجامعي في جامعة المنار بتونس العاصمة، إضافةً إلى الخيم التي تم نصبها في ساحة الجامعة تعبر كل واحدةٍ منها عن آراء ونشاطات الحركات الاجتماعية والمنظمات غير الحكومية.

هكذا رأيت تونس

عندما سمعت أن المنتدى الاجتماعي هذه السنة يقام للمرة الثانية في تونس الخضراء فرحت فرحاً كبيراً وشكرت الله من أن يتسنى لي الحضور في تونس هذا البلد الطيب مرةً أخرى ولأشارك في هذا اللقاء الإنساني الذي وجدته قريباً من مشاعري وتفكيري.

وجدت تونس بلداً جميلاً حيث تجد فيها مظلةً خضراء تغطي البلد بشكل كامل تذكرني جذابة طبيعتها الخلابة بغابات شمال إيران. وصدق من سماها تونس الخضراء، الطقس فيها لطيفٌ جداً في مثل هذه الأيام لاسيما في مدينة سيدي بوسعيد حيث أن الضباب اللطيف يداعب وجوهنا حيث كنا نتسلق من الجبل الذي بنيت عليه المدينة الأثرية ليطل بنا على البحر الذي يضاهي سعة صدر سكان هذا البلد.

غير أن الأمطار الغزيرة والعواصف التي هي في نفسها بركة السماء نزلت علينا بشدة في تونس العاصمة حين كنا نعمل في المنتدى وعطلت بعض الشيء من نشاطاتنا لكنها أعطت جمالاً إضافياً لحواراتنا حيث كنا نناقش ورحمة السماء تطهر قلوبنا وتبلل أجسادنا!!! وصلت شدة العاصفة إلى درجةٍ أن قلبت الخيمة رأساً على عقب، وعندما قدمنا صباحاً إلى المنتدى جاءني شخصين وأكدوا عليّ أنها بفعل العواصف وليست من جانب أحدٍ آخر يخالفنا في تفكيرنا وهذا في حد ذاته كان احتراماً وتكريماً لنا وسررت بهذا الاهتمام.

 ولتونس شعبٌ كريمٌ هادئٌ بطبيعته وذو أخلاقٍ حسنة، وبحكم عملي في الحوار الديني تواصلت خلال السنوات العشر الماضية مع العديد من الشخصيات من مختلف الدول العربية ووجدت التوانسة أكثر الناس يمتلكون فن الاستماع إلى الأخر وأقلهم تعصباً في التمسك بالقناعة الفكرية أو السياسية إذا وجدوا عند الآخر حججاً وأدلةً أقوى من التي يمتلكها وهذه الخصوصية شجعتني للحوار معهم.

أهل تونس معروفون بالوعي السياسي والثقافي وكلما دخلت معهم في نقاشٍ تحليليٍ سياسي وجدت الجامعي وسائق التكسي وصاحب المطبعة الذي كنت أريد أن أطبع عنده البروشور كلهم على مستوى عالٍ من التحليل السياسي يستحقون بذلك دعوتهم إلى القنوات الفضائية لمناقشة القضايا السياسية الساخنة!

وللجغرافيا كذلك قسطٌ من التأثير في تكوين الشخصية الثقافية الفكرية التونسية، فمناخ البحر الأبيض المتوسط وقرب تونس من أوروبا أعطاهم نسبةً كبيرةً من الانفتاح على الآخر مما جعل سلاسة الحوار لديهم جزءاً من الثقافية العامة للبلد.

وأجمل ما رأيت عند أهل تونس هو قوتهم في التمسك بخيار المقاومة واهتمامهم البالغ بالقضية الفلسطينية حيث أصبح عندهم شعار «الشعب يريد تجريم التطبيع» مطلباً وطنياً جماهيرياً ملحاً جمع تحت مظلته كل الأطياف السياسية والشعبية المخلصة.

مذهب تونس الرسمي الفقهي هو مذهب إمام المدينة مالك بن أنس، ومن الناحية الروحية التصوف منتشرٌ في هذا البلد، ومراقد أولياء الله مشهورةٌ وأسماء أقطاب الصوفية متداولة على ألسن الناس، فمحبة أهل البيت جزءٌ أساسيٌ من التكوين الروحي للمسلم التونسي وفي الأعراف والتقاليد الشعبية رموزٌ تشير بوضوحٍ إلى مدى التعلق القلبي للشعب التونسي بالنبي محمد صلى الله عليه وأهل بيته، وبعد الدراسة والاستماع لتاريخ تونس الثقافي وجدنا محطاتٍ تاريخية متعددة من التعاون والتبادل الثقافي بين إيران وتونس في القرون الماضية، فهذه مدينة القيروان رمزٌ لتاريخ التعاون الثقافي بين البلدين الشقيقين بحيث أن اسم هذه المدينة اسمٌ فارسيٌ إيراني، وكذلك وجدت في تونس بعض الأسماء الإيرانية تستخدم لتسمية البنات مثل «شيراز» وهي اسم مدينةٍ في إيران، مدينة الأدب والوردة والبرتقال ومدينة الشاعران الكبيران الإيرانيان؛ حافظ وسعدي، ولسنا هنا في وارد شرح تفاصيل هذه الخلفية الحضارية المشتركة بل ما ذكرناه هي اشاراتٌ عابرةٌ للتنبيه على وجود التقارب الثقافي بين البلدين الشقيقين.

بداية الرحلة

بدأت بالتنسيق مع مؤسسات أهلية أخرى والتي هي ناشطة في دعم خط المقاومة والقضية الفلسطينية وتسير لتحقيق رسالة الوحدة الإسلامية المقدسة وشجعتها للمشاركة حيث كنت أوضح لمدرائها الانفتاح السائد في المنتدى وفرصة الحوار مع الآخر، رأيت تجاوباً كبيراً من الزملاء ومنظمات المجتمع المدني الإيراني الناشطة على الساحة الدولية، فبعد التسجيل في موقع المنتدى والقيام بإجراءات أخذ تأشيرة الدخول إلى تونس عقدنا جلسات تنسيقية بيننا واستعدينا للسفر.

اتفقنا ألا نخوض في المناقشات المذهبية أبداً، درءاً للفتنة وتجنباً من إثارة النعرات الطائفية البغيضة لاسيما أننا أردنا أن نمثل جبهة المستضعفين العالمية والتي خطابها عابراً عن الأديان والمذاهب وتفتح مجال التكاتف لكفاح الإنسان المستضعف ـ مهما كانت انتماءاته ـ ضد القوى المستكبرة العالمية وعلى رأسها الكيان الصهيوني الغاصب وأميركا وحلفائها في المنطقة ولذلك سمينا الخيمة التي حجزناها في ساحة الجامعة للمؤسسات الإيرانية الأهلية باسم «بيت المستضعفين».

الطيران إلى تونس

ركبنا طائرة الخطوط الجوية القطرية لتأخذنا من مطار الإمام الخميني في طهران عبر مطار الدوحة إلى مدينة تونس، ولكن بسبب سوء الأحوال الجوية اضطررنا للهبوط في مطار مدينة الدمام السعودية بدل مطار الدوحة، كان معنا مجموعة من السياح. والسياحة الإيرانية إلى تونس عادةً تكون في أيام عطلة رأس السنة الشمسية الهجرية أو ما يعرف بعيد النيروز، فتستغل شركات السياحة هذه الفرصة لأخذ المجموعات السياحية من إيران إلى تونس.

فكنا نسلي أنفسنا بالدعابة والمزاح بين مجموعتنا إضافةً إلى بعض النقاشات المفيدة حول تاريخ الدمام وكيفية بناء هذه المدينة إلى المسافة بين الدمام والدوحة وشرب العصير والقهوة والشاي ومشاهدة الأفلام العربية التي كان بإمكاننا متابعتها من خلال الشاشة الموضوعة أمام كل راكبٍ على الطائرة فاخترت فيلماً مصرياً بعنوان «لا مؤاخذة» فوجدته يتحدث عن مفهوم التعايش السلمي ضمن رواية حياة طفلٍ مسيحيٍ مصري أجبرته الظروف المعيشية أن ينتقل من مدرسةٍ خاصةٍ عالية المستوى إلى مدرسة حكوميةٍ عامةٍ فيها العديد من المشاكل والأزمات الاجتماعية، ومن خلالها يجرب كيف يكون متمسكاً بدينه ويعيش في مجتمعٍ مختلفٍ معه عقائدياً، فاستغربت كيف أنني وصلت إلى هذا الفيلم مع وجود الكم الكبير من البرامج والأفلام المعروضة، وأنا الذي أبحث عن قضية التعايش السلمي وتجلياتها في المجتمعات الإنسانية المختلفة.

عموماً كنا نخفف عن أنفسنا ولكن الذي كان يزعجنا إضافةً إلى التعب الجسدي أننا لم نكن نعرف كم هي مدة بقاءنا في الطائرة، حقيقةً الحيرة هي أسوأ حالات الإنسان، هذا بالنسبة لمن لا يعرف وجهة سفره فما بالك بمن هو حيران في طريق حياته.

وبعد توقفٍ استمر أربع ساعاتٍ ونحن في الطائرة ولم نستطع حتى الخروج منها إلى المطار، تحركنا إلى الدوحة وهبطنا فيها ولكن بسبب هذا التأخير لم نلحق بالطائرة المتوجهة إلى تونس، فاضطررنا أن نبيت في مطار الدوحة إلى اليوم الثاني لكي يتسنى لنا الالتحاق بطائرة اليوم الآخر، ووجدنا حشوداً كبيرةً من جنسياتٍ مختلفةٍ في طوابيرٍ طويلةٍ كانوا يبحثون عن رحلاتهم التي تأخروا عنها لنفس السبب.

صبرنا ساعاتٍ طويلةٍ في الطابور حتى استطعنا أن نغير تذاكر سفرنا إلى اليوم التالي، ولكن للأسف قالوا لنا أن فنادق المطار قد امتلأت فأعطونا البطانيات وبعض الهدايا الصغيرة البسيطة لكي نستطيع أخذ قسطٍ من الراحة بعد يومٍ شاقٍ ومتعبٍ. لقد كنت أشعر بالحرج الكبير من أجل بقائي في قطر ليس كرهاً بالشعب وإنما امتعاظاً بالسياسات الخاطئة التي تتخذها حكومة هذه القطعة الصغيرة التي تشبه الجزيرة، فكتبت في صفحتي على الفيس‌بوك: «يا جماعة افهموني بقى، مش عاوز أبقى في قطر، اعمل أيه؟.

 ومن جميل ما حدث أننا صلينا في جامع المطار واقتدى مجموعة من الشباب من أهل السنة بأحد الأخوة من مجموعتنا، وكذلك نحن اقتدينا في وقتٍ أخر بمجموعة من إخواننا من أهل السنة في صلاة الجماعة، وبهذه الخطوة حاولنا أن نجسد الوحدة الإسلامية في أداء هذا الواجب العبادي الذي هو عمود الدين، فالصلاة التي هي قربان كل تقيٍ إلى الله تبارك وتعالى بإمكانها أن تقرب قلوب المسلمين كذلك.

 

أكتب تعليقا